ظهر الكُتَّاب عند المسلمين منذ عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وانتشر مع انتشار الإسلام في مختلف البلدان.
وأنشئ من خلال عمل إسلامي بحت، وكان المكان الرئيسي في العالم الإسلامي لتعليم الصغار.
وقد تمتع بمكانة كبيرة الأهمية في الحياة الإسلامية، وبخاصة وأنه المكان الذي يتعلم فيه الصبيان القرآن، إضافة إلى ما للعلم من مكانة في نظر الإسلام حيث هو فريضة على كل مسلم.
وكذلك تلك القدوة التي نأخذ بها من خلال أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم حيث حض على ضرورة التعلم , فكلف كل أسير من أسرى الحرب بعد موقعة بدر بتعليم اثني عشر طفلًا من أطفال المسلمين على سبيل الفدية.
ولقد قسمت الكتاتيب إلى قسمين:
1 ـ كتاتيب أولية:
وكان يتعلم الأطفال فيها القراءة والكتابة , ويحفظون القرآن, ومبادئ الدين وأوليات الحساب.
2 ـ كتاتيب قانونية:
إن صح هذا التعبير –كانت لتعليم الأطفال والشباب علوم اللغة والآداب، وكانوا يتوسعون فيها بعلوم الدين والحديث وسائر صنوف العلوم الأخرى بصورة عامة (التربية والتعليم في الإسلام ص 110).
و نستطيع القول إن الكتاتيب القرآنية قد انتشرت بشكل واسع وبارز؛ نتيجة تحمس الناس الشديد للقرآن الكريم، وكثرة الفتوحات الإسلامية، وبالتالي اتساع رقعة الدولة.
كذلك ظهر نوع من الكتاتيب اختص بالأيتام، وكان الغرض من إنشائها، تعليم الأيتام وأبناء الفقراء ورعايتهم، إلى جانب التقرب إلى الله تعالى.
ولم تقتصر هذه الكتاتيب على تعليم الأيتام بل "أضيف إليهم أولاد الفقراء والجند والبطالين.
وقد وفر هذا النوع من التعليم الرعاية العلمية والاجتماعية لهذه الفئة غير القادرة , والذين لم يكن في وسع ذويهم إرسالهم إلى المكاتب الخاصة , أو إحضار مؤدبين لهم إلى المنازل"(التعليم في مصر زمن الأيوبيين ص121).
ولقد كثر الاهتمام بكتاتيب الأيتام خلال عهود الزنكيين، والأيوبيين والمماليك، فهذا نور الدين زنكي يبني "في كثير من بلاده مكاتب للأيتام ويجري عليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة"(الروضتين في أخبار الدولتين ص 1/23).
واختلفت أحجام الكتاتيب صغرًا وكبرًا، "فكتاب أبي القاسم البلخي كان يتعلم فيه (3000 تلميذ) وتدل رواية ياقوت على أن هذا الكتاب بجانب استقلاله عن المسجد كان فسيحًا ليتسع لهذا العدد الكبير ,ولهذا كان يحتاج البلخي أن يركب دابته ليتردد بين هؤلاء وأولئك؛ وليشرف على جميع تلاميذه"(التربية الإسلامية- أحمد شلبي ص 54).
أثاث الكتاب:
كان الكتاب يفرش بالحصير غالبًا، يجلس عليه الصبيان متربعين حول معلمهم، وكانت أدوات الدراسة تتضمن مصحفًا شريفًا، وعدة ألواح، وعددًا من الدوي والأقلام.
وقد يختص المعلم "بسرير أو كرسي مرتفع , وربما عوض الكرسي بمصطبة مبنية (دكانة) ليس عليها من الرياش سوى بساط صغير"(آداب المعلمين لابن سحنون 50).
بداية الطلب:
أما سن ذهاب الصبي إلى الكتاب فيلاحظ بصفة عامة أن هناك "اتجاهًا نحو التبكير في التعلم بالكتاب، فمنذ السنة الخامسة أو السادسة ينتقل الطفل إلى بيئة جديدة هي الكتاب، حيث يبقى فيها إلى أن يتم حفظ القرآن بأكمله.
أو يحفظ جزءًا منه إلى جانب تعلمه القراءة والكتابة، وبعض النحو والعربية , وشيئًا من الحساب، وما إلى ذلك من الأمور التي كانوا يعتبرونها وسائل للإحاطة بالدين"(التربية في الإسلام ص130).
ولعله من الأرجح أن يبقى الصبي في الكتاب حتى سن الثانية عشرة أو ما دون ذلك، ولكن لا يمنع الأمر أن يكون هناك من هم في سن أكبر من الثانية عشر.
ولما كان الصبيان يأتون إلى الكتاب صغار السن، لذا كان على الأهل أن يؤمّنوا من يرافقهم في غدوهم ورواحهم إلى الكتاب.
وأطلق على هذا المُرافق اسم السائق , واشترط فيه أن يكون "أمينًا ثقة متأهلًا، لأنه يتسلم الصبي في الغدو والرواح , وينفرد به في الأماكن الخالية , ويدخل على النسوان , فيلتزم أن يكون كذلك"(نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 104).
وتعد مثل هذه الأمور ظاهرة اهتمام واضحة من المسلمين بسلامة أطفالهم، وخاصة من خلال تلك القواعد التي وضعوها , ورعوا فيها الظروف الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع، فوضعوا شروطًا وقيودًا للمحافظة على الأطفال من بعض الأمراض الاجتماعية التي قد تنتشر في مثل هذه الظروف، وقد امتد الاهتمام بالأطفال ليشمل أوقات الراحة والذهاب إلى المنزل والعودة منه.
شروط معلم الكتاب:
أما معلم الكتاب فقد جمع مهامًا متعددة بيده، ومهمته تشبه إلى حد ما مهمة المعلم المنفرد، لكنه يتصرف ضمن لوائح وإرشادات معينة لا يحق له الخروج عنها.
"وقد تحروا جهدهم في انتخاب المعلم الذي يتولى تعليم صبيانهم، فلا يختارون لهذه المهمة إلا من تقرر عندهم حسن أخلاقه، وتوفرت فيه خصال رشيدة جمَّة، منها الإشتهار بالإستقامة والعفاف، والعدالة مع الخبرة العامة بالقرآن وعلومه.
وقد وضع الفقهاء المسلمون خصالًا ينبغي توفرها في معلم الكتاب، فالقابسي يرى أنه ينبغي أن يكون مهيبًا لا في عنف، لا يكون عبوسًا مغضبًا، ولا مبسطًا، مرفقًا بالصبيان دون لين، وينبغي أن يخلص أدب الصبيان لمنافعهم"(آداب المعلمين ص 47).
ولقد أنيطت مهمة الإشراف على معلم الكتاب بالمحتسب , فاشترط لهذا المعلم أن يكون من "أهل الصلاح والعفة والأمانة، حافظًا للكتاب العزيز، حسن الخط، ويدري الحساب، والأولى أن يكون متزوجًا، ولا يفسح لعازب أن يفتح مكتبًا إلا أن يكون شيخًا كبيرًا , وقد اشتهر بالدين والخير , ومع ذلك فلا يؤذن للتعليم إلا بتزكية مرضية وثبوت أهلية"(معالم القربة في أحكام الحسبة 260).
منهج الدراسة:
أما منهج التعليم ومواده المقررة، فكان يطلب من الصبي أن يحفظ القرآن الكريم كله أو بعضه عن ظهر قلب، ويتعلم القراءة والكتابة والخط، ومبادئ الحساب الأولية.
وقد اهتم المربون المسلمون بتكوين الشخصية السوية لأطفال الكتاب بتعويدهم الكتابة للناس، وتعليم بعضهم بعضًا.
وخاصة من خلال ذلك الصبي المتميز بعلمه , والمعروف بـ"العريف" , وإملاء بعضهم على بعض , وإمامة من بلغ سن الإحتلام وصلح لإمامة غيره في صلاة الجماعة، مع ما في ذلك من اهتمام بالتطبيق العملي لما يتعلمونه.
وقد يفرغ المعلم من تعليمهم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، فيعلمهم "مبادئ علوم الدين واللغة، أي أن النشاط التعليمي داخل الكتاب كان يمتد ليشمل تعليم الأطفال بعض الأحاديث النبوية وآداب الدين، ويعلمهم عقائد أهل السنة والجماعة، ومما يتناسب مع السن والفهم، وكذلك قواعد اللغة , وما يستحسن من المراسلات والأشعار , ويدرجه بذلك حتى يألفه طبعًا"(تاريخ التربية الإسلامية ص226).
التنظيم الإداري:
أما تنظيم التعليم في الكتاب فقد قام الفقهاء بمحاولات تنظيمه قدر الإمكان، وأخضعوا الكتاتيب لشروط موحدة، بالإضافة إلى ما كانت تقوم به الدولة من الإشراف عليها , وعلى أنظمتها من خلال المحتسب , ومراقبته لها، والذي له الحق أن يمنع من لم تتوفر فيه الشروط اللازمة من ممارسة المهنة.
وكانت الحياة في الكتاتيب "فطرية في الغالب" وأوقات الدراسة فيها كانت تحدد بعلامات طبيعية, فشروق الشمس كان بدء اليوم الدراسي , يطول ويقصر تبعًا لشروق الشمس، وأذان العصر"(التربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري ص 185).
وأما بالنسبة للراحة والعطل المدرسية، فقد لوحظ اهتمام المسلمين بإعطاء الصبي قسطًا من الراحة بعد عناء الدراسة، فهذا ابن الحاج العبدري (ت 737هـ/ 1336م) يقول "إن ذلك مستحب لقوله عليه الصلاة والسلام "روحوا القلوب ساعة و ساعة" [مراسيل أبي داود قال السخاوي وله شواهد من الصحيح: المقاصد الحسنة 275] فإذا استراحوا يومين في الجمعة نشطوا لباقيها"(المخل 2/321).
وهناك تعطيل في أيام الأعياد، وحالات المرض، والرياح والعواصف والبرد والمطر الشديد.
أما المعلم فإذا تغيب لشغل طارئ "فعليه أن يستأجر للصبيان من يكون فيهم بمثل كفايته إذا لم تطل مدة ذلك... كذلك إن هو سافر فأقام من يوفيهم كفايته لهم، إن كان سفرًا لا بد منه، قريبًا اليوم واليومين، وما أشبههما فيستخف ذلك إن شاء الله، وأما إن بعد أو خيف بعد القريب لما يعرض في الأسفار من الحوادث فلا يصلح له ذلك"(آداب المعلمين لابن سحنون ص 57).
تعليم البنات:
يبدو أن التعليم الابتدائي لم يكن مختصًا بالصبيان الذكور دون الإناث، بل إنه كان شاملًا للجنسين، لا سيما عند الأغنياء، وأصحاب المناصب العالية والعلماء، "فهذا القاضي الورع عيسى بن مسكين المتوفى سنة (275هـ/888م) كان يقرئ بناته وحفيداته.
قال عياض: وكان من سيرة عيسى بن مسكين في غير مدة قضائه أنه كان إذا أصبح قرأ حزبًا من القرآن، ثم جلس للطلبة إلى العصر. فإذا كان بعد العصر دعا بنتيه وبنات أخيه يعلمهن القرآن والعلم"(الرسالة المفصلة لأحوال المعلمين 321).
ويبدو أن بعض الصبيان كانوا يستمرون في الكتاب إلى سن الإحتلام , ولهذا كان يخشى على الإناث من الفساد، وذلك لم يمنع البنات من التعليم، وإنما منع اختلاطهن بالذكور، انطلاقًا من الغيرة على الأخلاق، وحفظ الدين، وأكبر دليل على انتشار التعليم بين الإناث تلك الأعداد الكبيرة من النساء الفقيهات، والشاعرات، والكاتبات... الخ.
الحياة الاجتماعية في الكتاب:
لم يسمح المسلمون أن تقوم عزلة وحواجز بين الكتاب والمجتمع، ولذلك فهو يتفاعل مع مجتمعه , ويشارك في حياته اليومية "فإذا مات عالم جليل أفاد العباد بعلومه , أو رئيس نفع البلاد بآرائه وأعماله، أو أمير عادل أنصف في أحكامه، أغلقت الكتاتيب أبوابها، وعطل الأحداث دراستهم يوم دفنه مشاركة في المصاب العمومي، وإظهارًا للتأسي وإجلالًا لخدمة الصالح العام"(آداب المعلمين 57).
ويشارك الصبيان في القضايا العامة التي تلم بالمجتمع فيقول ابن سحنون: "إذا أجدب الناس , واستسقى الإمام , فأحب للمعلم أن يخرج بهم من يعرف الصلاة منهم، وليبتهلوا إلى الله بالدعاء ويرغبوا إليه، فإنه بلغني أن قوم يونس –صلى الله على نبينا وعليه السلام- لما عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم , فتضرعوا إلى الله بهم"(آداب المعلمين ص111).
وقد تميز التعليم في الكتاب بالاهتمام بالآداب الاجتماعية حيث "يقوم المعلم بتأديب الأطفال , وتربيتهم التربية الصالحة, وتعويدهم العادات الحسنة، وتعليمهم كيفية احترام الناس, ومراعاة الذوق والأدب طبقًا للعرف الجاري.
وأن يلقي السلام على من يدخل عليهم, أو يمر بهم من الناس، ويأمرهم ببر الوالدين، والإنقياد لأمرهما بالسمع والطاعة، والسلام عليهما , وتقبيل أياديهما عند الدخول إليهما، ويضرب المعلم طلابه على إساءة الأدب , والفحش في الكلام وغير ذلك من الأفعال الخارجة عن قانون الشرع"(معالم القربة في أحكام الحسبة 261).
الرعاية الصحية:
والملفت للنظر اهتمام الفقهاء المربين بصحة الصبيان في الكتاب، فنصحوا بعزل الصبي المريض عن رفاقه حتى لا ينتشر المرض بينهم، يقول ابن الحاج العبدري: "ينبغي إذا اشتكى أحد من الصبيان وهو بالمكتب بوجع عينيه , أو شيء من بدنه، وعلم صدقه أن يصرفه (المعلم) إلى بيته ولا يتركه يقعد في المكتب"(المدخل 1/322).
وذلك ليترك لأهله الاهتمام به, والعمل على معالجته؛ خوفًا من انتشار عدوى المرض بين الصبيان.
وطلب إلى معلم الصبيان منعهم من أكل الطعام والحلوى المكشوفة والمعروضة من قبل الباعة الجوالين "فلا يدع المعلم أحدًا من البياعين يقف على المكتب ليبيع للصبيان، إذ فيه المفاسد إن اشترى منه"(المدخل1/313).
وبلغ الحرص عندهم لدرجة "ترتيب طبيب يحضر بالمكتب في كل شهر"(التعليم في مصر زمن الأيوبيين ص145).
ميزانية الكتاب:
تمويل التعليم في الكتاب كان يتم عن طريق ما يقوم به الآباء نحو أبنائهم، وما يدفع لمعلمهم من أجر مشاهرة، أو مسانهة (أي معاملة بالسنة) أو مقاطعة (أي يقطعه مقاطعة مقابل تعليم الطفل) أو بما يقوم به القادرون ماديًا، نحو أقاربهم الفقراء وغير أقاربهم من أبناء المسلمين، مما يدخل في باب التكافل العلمي عند المسلمين.
ولقد أبرز التطبيق العملي لمبادئ الإسلام صورًا من التضامن الشعبي في مجال الخدمات التعليمية , مما رفع عن كاهل الدولة الصرف على التعليم وتمويله إلا في أضيق الحدود، ولعل ذلك كان سببًا للانتشار الواسع لمؤسسات التعليم الأولي في العالم الإسلامي.
_________
الكاتب: من كتاب الحضارة الإسلامية (علي بن نايف الشحود)
المصدر: موقع الشبكة الإسلامية